البرادعى.. والعراق والكويت ولبنان وعودة الليبرالية

بقلم د. سعد الدين إبراهيم
قد يعجب القارئ لأول وهلة من الكلمات التى وردت فى عنوان المقال، فما العلاقة مثلاً بين د.محمد البرادعى حالياً فى مصر، وكل من العراق ولبنان والكويت؟
دعونا نبدأ بالعراق، فمهما كان الموقف مما حدث فى عراق صدّام حسين، أو من الغزو الأمريكى الذى أسقطه، فإن أحداً لا ينكر أن هذا البلد العربى الشقيق يشهد استقراراً أمنياً مُتزايداً، ويشهد تطوراً سياسياً واعداً. وآية ذلك أن العراق قد شهد فى الشهر الأخير (مارس ٢٠١٠) انتخابات نيابية تنافسية للمرة الثانية منذ سقوط صدّام حسين.
وإذا كانت الأولى (٢٠٠٥)، قد تمت فى ظل الحراب الأمريكية، ويجوز الطعن فى جديتها أو نزاهتها، فإن الثانية قد تمت فى ظل سيادة وطنية عراقية مُتزايدة، وتحت إشراف الأمم المتحدة، وفى ظل رقابة دولية مُستقلة.
والأهم من هذا وذاك أن أحداً ذا أهمية داخل العراق أو خارجه لم يطعن فى سلامتها من حيث إنها كانت انتخابات حُرة ونزيهة، بما فى ذلك الحزبان الكبيران المُتنافسان «الجبهة العراقية» و«حُكم القانون»، اللذان لم يفصل بينهما إلا ثلاثة مقاعد. وجدير بالذكر أن الحزب الخاسر الذى يرأسه نورى المالكى، كان هو الحزب الحاكم، قبل وخلال الانتخابات. وهذه سابقة لم يعرفها العراق منذ العهد الملكى (١٩٢٠-١٩٥٨)، ولم يعرفها الوطن العربى منذ العصر الليبرالى (١٨٦٠-١٩٦٠).
إن أقصى ما فعله الحزب الخاسر هو أن طلب من اللجنة العُليا للانتخابات أن تقوم بإعادة عدّ الأصوات فى بعض الدوائر، ولكن نورى المالكى، رئيس الحزب الخاسر، أكد أنه مع ذلك سيلتزم بقرار اللجنة العُليا للانتخابات، وبأحكام المحكمة الدستورية العُليا فى العراق.
إن ما يحدث فى العراق هو تطور ديمقراطى ينبغى لكل دُعاة الديمقراطية العرب أن يحتفوا به، خاصة أنه يحدث بعد عام كامل من انتخابات برلمانية فى كل من لبنان والكويت، وبعد عامين من انتخابات مُماثلة فى كل من المغرب وموريتانيا، ولم يطعن فى نزاهة تلك الأخيرة أى طرف. أى أننا بصدد خمسة بُلدان عربية شهدت فى الآونة الأخيرة انتخابات تعددية تنافسية... ويوشك بلد عربى سادس، وهو السودان، أن يشهد انتخابات واستفتاءات حاسمة ستُقرر مصيره كُلية.
ولهذه الأهمية القصوى لتلك الانتخابات، فقد طالبت كل الأطراف فى السودان التى يهمها الأمر أن تتم تحت إشراف دولى، وقد نوّهنا عن ذلك فى مقال سابق لنا نُشر فى جريدة «المصرى اليوم» بتاريخ (١٣/٢/٢٠١٠) بعنوان «كارتر وشرعية الانتخابات فى مصر المحروسة»، حيث إن الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر هو الذى يقود فريق المُراقبين الدوليين، حتى يُضفى على النتائج «المشروعية» المطلوبة، قبل تقرير مصير السودان، سواء ظل موحداً، أو انقسم إلى دولتين أو أكثر.
إن هذا النمو الملحوظ فى عدد الانتخابات العربية التى تتم تحت إشراف دولى، مؤشر لإدراك كل من يهمهم الأمر أن «الحُكم الديمقراطى» الذى يأتى أصحابه إلى السُلطة بالإرادة الحُرة لأغلبية مواطنيه، هو السبيل الأمثل لمواجهة التحديات وقهر المُشكلات التى ظلّت تعسف بهذه البُلدان منذ «استقلالها» قبل نصف قرن، وأصبح الجميع يُدرك أن «الاستقلال» وحده لا يكفى لضمان حُكم قادر ونزيه.
لقد مرت بمُعظم البُلدان العربية حقبتان من أنظمة الحُكم منذ الاستقلال، الأولى كانت تعددية ديمقراطية ليبرالية، قادتها الطبقتان المتوسطة والعُليا من كبار المُلاك والمهنيين ـ الباشوات والبكوات ـ وظلّت قريبة أو تابعة فيها للقوى الغربية التى استعمرت تلك البُلدان، ولم تهتم فيها بـ«المسألة الاجتماعية»، أى بـ«العدالة» و«التنمية» التى كانت الهمّ الأكبر للغالبية من أبناء شعوبها بعد الحرب العالمية الثانية. كما أن حكومات تلك الحقبة الليبرالية (١٩٤٥-١٩٦٠) فشلت فشلاً ذريعاً فى إدارتها للمسألة الفلسطينية. ولذلك شهدت سوريا ومصر والعراق واليمن وليبيا موجة من الانقلابات العسكرية، التى أنهت الحقبة الليبرالية، واستحدثت حقبة «شعبوية» رفعت فيها شعارات جذّابة للعدالة والاشتراكية والتنمية والوحدة وتحرير فلسطين.
ولكن هذه الحقبة الشعبوية كانت بدورها مُخيبة لآمال أغلبية شعوبها، فبعد نصف قرن من الاستيلاء على السُلطة، لم تُحرر هذه الأنظمة الشعبوية فيها شبراً واحداً من فلسطين، بل انهزمت فى كل حروبها مع إسرائيل والقوى الخارجية الأخرى، وكذلك لم تُحقق لا التنمية، ولا العدالة، ولا الوحدة العربية التى كانت قد وعدت بها فى مُقابل التضحية بالديمقراطية.
لذلك تُعتبر العودة للانتخابات التنافسية التى أشرنا إليها أعلاه، هى بمثابة عودة إلى الليبرالية والواقعية السياسية. من ذلك أننا لم نر أو نسمع من أى من الأحزاب التى تنافست فى العراق ـ وقبلها فى الكويت ولبنان والمغرب وموريتانيا ـ وعوداً لا بإنجاز الوحدة العربية، ولا بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، ولا بالفردوس المفقود. إن أقصى ما وعد به المُتنافسون هو حُكم أفضل، وفساد أقل، وكفاءة فى حفظ الأمن وحُكم القانون.
ولذلك يأتى ظهور د. محمد البرادعى وما أحدثه على الساحة المصرية من حيوية سياسية ضمن هذا السياق الأكبر لعودة الليبرالية إلى الوطن العربى، ومن ذلك أن الرجل بدأ حملته بالمُطالبة بتغيير الدستور الحالى الذى مازال «شعبوياً» شمولياً، إلى دستور ليبرالى تعددى حقيقى، يسمح لكل القوى الاجتماعية بأن تتنافس سياسياً، وأن يُشارك مُمثلوها فى السُلطة من خلال انتخابات حُرة ونزيهة، وهو مطلب كانت الحركة الوطنية المصرية قد رفعته مع مطلب الاستقلال منذ ثورة ١٩١٩، وأنجزته إلى حد كبير بين عامى ١٩٢٢ و١٩٥٢. ولكنه انتكس منذ يوليو ١٩٥٢، أى أن د. البرادعى والحركة التى فجّرها هى أساس لتقويض ستين سنة من الحُكم الشعبوى غير الديمقراطى، والعودة إلى ليبرالية تعددية حقيقية.
وجدير بالتنويه أن البرادعى يُدرك أن انتكاسة العصر الليبرالى (١٩٢٢-١٩٥٢) كانت لغياب مطلب «العدالة»، لذلك نلاحظ أنه وضع مطلب «العدالة» متوازناً مع الديمقراطية. فإذا كانت ثورة ١٩١٩ قد رفعت شعارى «الاستقلال» و«الدستور»، فإن حركة التغيير البرادعية ترفع شعارى الديمقراطية والعدالة. وهذا فى رأينا عين الحكمة.
وإذا كان المطلب الديمقراطى واضحاً فى كيفية تفعيله من حيث انتخابات تنافسية حُرة يتساوى كل المواطنين فى المُشاركة فيها دون قيود أو شروط تعجيزية، فإن مطلب «العدالة» سيحتاج من البرادعى الإفصاح عن كيفية تفعيله على أرض الواقع، وينطبق الشىء نفسه على بقية المبادئ أو الشعارات الخمسة الأخرى التى وردت فى بيانه الأول.
إن ما يحدث على الساحة المصرية مع د. محمد البرادعى، وما نُطالب به أعلاه، مطلوب أيضاً من الحزب الوطنى، ومن النظام الحاكم. إن الشعب المصرى يستحق أن تكون لديه فرصة حقيقية للاختيار الحُر بين بدائل ـ واضحة ـ فى الأشخاص والبرامج.
وطبعاً ليست حركة البرادعى (التغيير) والحزب الوطنى (النظام القائم) الخيارين الوحيدين، فهناك خيار ثالث، تسنده قوة مُنظمة، بل ربما الأكثر تنظيماً على الإطلاق، وهى التيار الإسلامى الذى يُمثله الإخوان المسلمين. ولكن ذلك يحتاج إلى مقال مُستقل فى وقت لاحق.
وعلى الله قصد السبيل